إنسان من نوع خاص ..!!
بقلم : على جمال الدين ناصف
عرفته صخرى الوجه صلب الجبين ، لم يعرف وجهه يوما حمرة الخجل ، ولا برقع الحياء، لا يتوقى شيئا ، و لا يبالى ما يقول . إن كان لكل الناس وجه و لون ولسان ، فلهذا المخلوق أوجه و ألوان و ألسنة . تجده صديقك و عدوك حسب الظروف الخارجية ، لا حسب ما يصدر منك ، و هو مادحك و ذامك حسبما يدور فى المجلس ، لا حسب رأيه ، تجده عابس لك يوما ، و باسما لك يوما وحسب ما يقدر هو أنه فى مصلحته ، لا حسبما تستحق أنت منه ، له حاسه زائدة عن حواس الناس الخمس هى سر من اسرار نجاحه المزعوم ، و لهذه الحاسه خصائص فهو يدرك بها أى شخص صاحب منصبا رئاسيا ليحول نفسه وفق صاحب المنصب و الجاه ، و يتجهم لأعدائه ، و يقترب من أحبابه ، و يشم بها مواطن المال فى كل الاحوال ، و يرى بها من يجلب له النفع ، ويؤقلم وفق ذلك نفسه ، فيتشكل بأشكال فى منتهى الظرف و الطلاوة ، فإذا عدوه اللدود بالأمس صديقه الحميم اليوم . و يعرف بها فى مهارة عجيبة موضع الضعف من كل إنسان يهمه أمره ..! فإن كان يعبد النساء حدثه أعذب الحديث فى النساء و الجمال و حسن الشكل ، و بدع المحاسن ، و جمال الملامح ، و أخذ يستعرض له نساء البلد ، و أية حوراء العنين ، كحلاء الجفون ، ساجية الطرف ، فاترة اللحظ ، و أية أسيلة الخد ممشوقة القد ، و أية بيضاء اللون ، شقراء الشعر ، زرقاء العين ، و أية سوداء العين ، سمراء اللون ، سوداء الشعر ، و أية ممتلئة البدن ، ضخمة الخلق ، شبعى الوشاح ، و أية دقيقة الشبح ، نحيلة الظل ، مرهفة الجسم ، و تفنن فى ذلك ما شاء أن يتفنن حتى يملك عقله ، و يستعبد هذا العقل ، فإذا هو يصبيح طوع بنانه و مستودع أسراره .
و آه ... و إن كان سكيرا حدثه الحديث الممتع فى الشرب و الشراب ، والكؤوس و الأكواب ، و آداب النديم ، وروى له أحسن الشعر فى الخمر ، وحثه عما يمزج و ما لا يمزج ، و خير الخمور و مواردها و تواريخها ، ثم تراه يتعرف على ما يستحسنه صاحبه ، فأفرط فى مدحه و أدعى الاعجاب به ، و أنه لا يفضل عليه غيره ، و أن ذوقه من ذوقه و شرابه من شرابه و مزاجه من مزاجه ، و أسكره من حديثه كما أسكره من كأسه ، فإذا هما صديقان و ثقت بينهما الكأس و الطاس .
و آه ... لو كان شرها فى المال حدثه عن الضياع و محاسن الأراضى و كيفية استغلالها ، و العمارات و جباياتها ، و أخذ يوزازن بين أنواع العقار و كم فى المائة يمكن أن تغل من الايراد ، و أعانه فى مشكلاته ، و بذل له كل أنواع معونته ، فوجد فيه صديقه النافع و خليله المواتى . هذا و قد تهديه حاسته أن يعمد إلى عدد من الرؤوس الكبار ذو النفوذ فينصب لهم حبالته ، و يوقعهم فى شبكته ، بما يبذر من حب ذى أشكال و ألوان ، فإذا تم له ذلك خضع الصغار من تلقاء أنفسهم و طوع إرادتهم ، و ضرب لهم مثلا بقضاء حاجات لبعضهم ما كانت لتقضى من غيره ، فيصبح مقصد الجميع ، و محيط آمالهم و موضع الرجاء منهم ، يعملون كلهم فى خدمته على أن ينالوا شيئا من جاهه ، فإذا هو أصبح سيد على الصغار و الكبار ، و إذا هو يصبح عظيم حيث كان ، يقابل بالاجلال و الإعظام ، و يتملق من أتباعه و إخوانه ، و يحسب له حساب فى دائرته و أوسع من دائرته بكثير.
و بجانب هذه الحقائق القليلة قدر كبير من التهويل ، تراه يزعم أنه فى كل ليلة جليس الكبراء ، كم يتغزلون فيه و يطلبون القرب منه ، و هو يتأبى عليهم و يبتعد عنهم ، فهو لو شاء لكانت إشارة منه ترفع من شاء إلى أعلى عليين ، و يخفض من شاء إلى أسفل سافلين ، الوزارة فى يده ، و أن الوزير لا يتخلى عنه لحظه ، حتى تراه يتضايق من شدة إعتماد الوزير عليه فى كل شئ. هو يستغل هذا كله فى قضاء مصالحه ، فطلباته ناجزة نافذة ، و المستحيل لغيره جائز له ، و الاموال تكال له كيلا ، و الهدايا تنهال عليه إنهيالا ، و مع ذلك لا يشبع ، فكلما نال مطلبا تفتحت له مطالب ، فهو فى طلب دائم ، و من بيدهم الأمور فى إجابة دائمة .
و من المستغرب له أن الناس يكرهونه من أعماق نفوسهم ، و يمقتونه من صميم قلوبهم ، و يرون فيه السخافة مركزة ، فإن لقوه فترحيب و تهليل ، و إعظام و ملق ، يتسابقون فى بسط السنتهم فه بالسوء غائبا ، و يطنبون فى مدحه حاضرا ، فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعون على حبه . فهو فى هذا ينتفع بإعظامهم و إجلالهم ، و لا يضره كرههم الذى لا يعدو قلوبهم ، فكرههم لأنفسهم ، و إعظامهم له ، و ماذا يضره كره محتقن و خير منه حب مصطنع ؟ و ماذا أيضا يضيره سب صادق فى إسرار ، و خير منه مدح كاذب فى إعلان ..!!
فهل ترى أن هذا الانسان بمقاييس النجاج ناجحا ؟ فإن كان النجاح بقضاء المصالح و الأغراض و الحصول على المال فحسب ، لكان السارق الذى يجيد السرقة و يفلت من العقوبة ناجحا ، و كان من يتاجر بشرفه و عرضه ناجحا ، فهذا الانسان من هذا النوع الخاص ، فإن قسته بمقياس أخلاقى لم تجده شيئا ، إن قسته بمقياس الفضيلة الباتة الحاسمة لم تجده فاضلا ، و إن قسته بمقياس السعادة لم تجدة سعيدا ، إنه يتمتع و يأكل كما تأكل الأنعام ، فإن كان الحمار أو الخنزير سعيدا فهذا سعيد ، و أين منه لذة ذى الضمير الحى ؟ ينعم بموافق الشرف و النبل ، ويلذهما لذة لا يعدلها ما ذكرنا من مال و جاه ؟ فالرجل الفاضل تراه سعيدا فى آلامه ، لأنها آلام لذيذة خصبة ، تجدها كالنار تنضح النفس ولا تحرقها ، أما لذة هذا الانسان ذى النوع الخاص قسم فى دسم ، و نار تحرق ولا تنضج ، و بعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال و الجاه ، و تصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوع نفسه و تنقبض شهيته ، فإن اللذة الباقية الدائمه هى لذة الروح لا الجسد ، و من العجيب فى أمر الروح أن لذتها لذة صافية , ألمها ألم مشوب بلذة . ثم لذة هذا الانسان إن صح ان نسميه انسان ، لذه مشروطة بشروط ، من بينها انه يعتقد أن لذته مرتبطة ببقاء صاحبة فى الوزارة ، وحميمه فى منصبه ، و حتى نجاح هذا الشخص فى أمة عنوان فشلها و سوء تقديرها ، وضعف الرأى العام فيها ، فهو مثل سيئ يشجع البذور السيئة على النماء و البذور الصالحة على الخفاء .
يارب
إذا أعطيتنى مـــالا لا تـأخذ سعادتـــــى
وإذا أعطيتنى قــوة لا تــأخذ عقلـــــى
وإذا أعطيتنى نجاحـا لا تــأخذ تواضعــــى
وإذا أعطيتنى تواضعا لا تأخذ إعتزازى بكرامتـى
alynaeef@yahoo.com