ما بين الكيف والكم..
على جمال الدين ناصف
في الغالب نرى الكل يدعو لعزيز له بأن يطول الله فى عمره بعدد السنين أى الإطالة فى الزمن ، هذا أصبح دارجا عند الجميع ولكن قد روى أن إبن " سينا" كان يسأل الله أن يهبه حياة عريضة و إن لم تكن طويله ، و لعله كان يعنى بالحياة العريضة الحياة الغنية بالتفكير و الإنتاج ، و يرى أن هذا هو المقياس الصحيح للحياة ، وليس مقياسها طولها إذا كان الطول فى غير إنتاج ،فكثير من الناس ليست حياتهم إلا يوما واحدا متكررا ، وهو عبارة عن أكل وشرب و نوم ، أمسهم مثل يومهم ، و يومهم كغدهم ، هؤلاء و إن عمروا مائة عام فأبن سينا يقدره بيوم واحد ، على حين أنه قد يقدر يوما واحدا طوله أربع وعشرون ساعة – بعشرات السنين إذا كان عريضا فى منتهى العرض ، فقد يوفق الحاكم فى يومه إلى فكرة تسعد الناس أجيالا ، أو إلى عمل يسعد آلافا ،فحياة هذا الحاكم و إن قصرت - تساوى أعمار آلاف الناس ، بل قد تساوى عمرأمة ، لان العبرة هنا بالكيف لا بالكم .
و لعل تقدير الاشياء بالكيف لا بالكم منزلة لا يصل إليها العقل إلا بعد نضجة ... ولذا نرى أن الطفل فى نشأته اكثر ما يعجبه الكم فى اللعب وكثرتها أمامه لا جودتها ، لذا نجد الطفل واشباهه يرغبون بكثرة العدد لا بجودة الصنف ، ربما تلحظ معى حيثما مررت فى شارع أو قمت بزيارة متجرأ رأيت أكثر الترغيب بالكم " فأربعون مظروف للجوابات " بجنية واحد ، وكذلك " دستة أقلام حبر جاف " بثلاث جنيهات و هكذا ، و يرجع ذلك إلى أن البيع والشراء يعتمدان على أدق قوانين علم النفس فى التأثير على عقلية الجمهور ، فالباعة يعلمون أن الذين يبتاعوا أكثر تقويما للكم ، و أكثر الخداع بالعدد ،فيأتونهم من نواحى ضعفهم و موضع المرض منهم و قل أن يرغبوهم فى الشئ بأنه ممتاز أو عال العال لان هذا تقدير للكيف و ليس يقدره إلا الخاصة من الناس .
ولو أن ما سوف استشهد به ينعكس معى شخصيا ، ألا ترى أنك إن رأيت الرجل الضخم حسن الهيئة فأنك تمنحه الاحترام ولو لم تعرف قيمته ، وترى الرجلصغير الجسم غير مهندم الثياب تجدك تحتقره من أول وهله من غير أن تعرفه ، وعلى وجه العموم اجمالا نجد اننا نحترم ذوى المظاهر الجميلة حتى يثبت العكس، و احتقار ذوى المظاهر الوضيعة حتى يثبت العكس ، وليس ذلك إلا من خداعا لكم ، و لو كنا من المنصفين لوقفنا على الحياد حتى نتبين الكيف .
أننا نقع دائما فى خداع الكم حتى إن رأينا رجل طالت لحيته و كبرة عمامته ،فإننا نعتقد فيه العلم و الدين ، مع أنه لا علاقة بين كبر العمامة و طولاللحية و بين العلم و الدين ، و إن كانت هناك ثمة علاقه فتكون علاقه عكسيه، لأن الدين محله القلب ، و العلم موطنه الدماغ و فى كل شأن من شئون الحياة و ضرب من ضروب العلم و الفن نرى خداع الكم فالمؤلفون يعلنون عن كتبهم أنها من ستمائة صفحه على سبيل المثال - و المتعلمون للاسف كثيرا ما تباهوا بكثرة ما قرأوا ، و الكتاب بكثرة ما كتبوا ، حتى الصحافة كثيرا ماتخدع القراء بالكم بزيادة عدد الصفحات فى الجرائد و المجلات .
كم تمنيت أن أرى قراء جريدة معينه ترغب فيها بالكيف فقط ، و إن كنت اجزم بأن مصيرها الفشل لان اكثر الناس لم يمنحوا بعد ميزان الكيف . و لعلى بعدما أوشكت الان على نهاية مقالى هذا نظرت الى ما كتبته فوجدته قليل ،فآلمنى ذلك فلم أبلغ ما كنت ارغب فى ان يكون عددا وطولا . ألسنا جميعا عباد الكم .
alynassef@yahoo.com