القيمة الذاتية للثقافة
بقلم : على جمال الدين ناصف
يبدو أن للثقافة قيمة ماليه مقررة ، فالبكالوريوس أو الليسانس ، و الدبلوم ، والماجستير، و الدكتوراة ، و ما إلى ذلك من الأسماء ، هى عنوان للثقافه ، و بمعنى آخر هى تتويج لسنين قضيت فى تحصيل العلم . و يأتى التقدير المالى فيقدر هذه الدرجات بالجنية ، و بالتالى يجعل لكل منها قيمة مالية خاصة ، و له العذر فى ذلك أن يفرق بين الدرجات ، و أن يسوى بين حاملى الدرجة الواحدة و إن اختلفوا فى مقدار الثقافه ، هذا لأنه لم يخترع بعد مقياس دقيق يزن به الفكر و مقدار استعداده وزنا صحيحا ، و لو كان قد أخترع هذا الميزان لكانت ألغيت الدرجات ، و يكتفى بوزن الكفايات ، كما نجد للثقافة أيضا قيمة إجتماعية ، تتجلى فى أنها ترفع من كان من طبقة وضيعة ، إلى أن يكون احيانا مساويا لمن كان من طبقة رفيعة ، فقد يرى حامل الشهادة العليا نفسه و قد يرى معه الناس كذلك بأنه صالح لأن مثلا يتزوج من طبقة راقية ، مهما كان منشؤه و مرباه ، و قديما قال الفقهاء فى "باب الزواج " : إن شرف العلم فوق شرف النسب ، هذا و لن أسترسل فى هذا الشأن كثيرا ، لاننى لا يعنينى الأن الناحية المالية للثقافه ، ولا الناحية الاجتماعيه لها ، فكلاهما أمرين خارجيين ، لكن ما يعنينى هو هذا التساؤل الذى يطرح نفسه عن القيمة الذاتية للثقافة ؟ بعدما قررنا بأن المال و إحترام الناس عرض خارجى للثقافه ، كما أتساءل عن القيمة الثابته التى تتصل بنفس المثقف ولا تفارقها فى فقر وغنى ، و فى جاه أو غير جاه ؟
قد يبدو لى أن أهم قيمة لثقافة المثقف هى كيفية نظره إلى هذا العالم ؟ ذلك بأن عيون الناس فى نظرها إلى الاشياء و حكمها عليها لست سواء ، فعيونهم الحسية و إن اتفقت فى الحكم على الالوان بالاسود و الأبيض و الأحمر و الأصفر ، و كذلك إن أتفقت فى الحكم على الأبعاد قربا و بعدا ، و إن أتفقت ايضا فى الحكم على الأحجام كبرا و صغرا ...الخ ، فإن العيون النفسية لا تتفق فى نظرها ولا حكمها ، فالشئ الواحد فى نظر الأبله غيره فى نظر الفيلسوف ، و أحسب أن بين هذين درجات لا حد لها ، كما أنه ليس للشئ الواحد معنى واحد بل معان متعدده تتسلسل فى الرقى ، والناس يدركون من معانيه بحسب استعدادهم و ثقافتهم و أذواقهم . و قديما حكوا أن عيسى عليه السلام مر هو و أصحابه بجيفة ، فقالوا : ما أخبث رائحتها ! وقال هو : ما أحسن بياض أسنانها ! ، كما نرى إن نظر الرجل العادى إلى حديقة مزهرة غير نظر الأديب الفنان ، فالأول ينظر اليها نظرة مبهمة لا تسفر عن معنى ، ولا تعرف لها وجهة ، قد تكون نظرة بليدة جامدة ، لا يسعفها ذوق ، و لا تخدمه قريحه ، بينما الثانى فإن نظره اليها يقرأ فيها من المعانى و الجمال ما يمتزج بنفسه ، ثم يسيل على قلمة كأنه قطع الرياض ، فيبدو ذلك فى وصفه و كتابته و سمو ذوقة .
فكل شئ يعرض على العين سواء فى السماء أو الارض لا يحمل معنى واحد ، بل معانى متعددة ، و هنا تبدو قيمة الثقافة الذاتية فى أن تنقل العين من أنظار سخيفة و معان وضيعة ، إلى انظار بعيدة و معان سامية ، وكل إنسان له نظراته فى العالم من أسفل شئ إلى أرقى شئ ، من مادة تحيط به ومال يعرض عليه و أعمال تتعاقب أمام نظره ، و إله يعبده ، فقد يبدو فى ذلك سخيفا فى نظراته ، وضيعا فى رأيه ، وضيعا فى حكمة ، و قد يبلغ فى ذلك كله من السمو منزلة قل أن تنال ، و عمل الثقافه أن تنشله من تلك النظرات الوضيعه إلى النظارت السامية .
و ما نود التأكيد عليه أن نظرات الإنسان هى كسائل لطيف إذا لونت نقطة منه بلون شع اللون فى سائر السائل ، و إذا سخنت جزءا منه وزع حرارته على السائل كله حتى يتعادل ، بل الرأى و النظرات ألطف من ذلك و أدق و أرق ، فإذا رقى النظر إلى شئ أثر ذلك رقيا فى سائر النظرات ، هذا و من المؤكد بأن كل نظرات الحياة متأثرة بنظرك إلى نفسك و العكس ، بل نظرك إلى الله جل فى علاه يتأثر بنظرك إلى عالمك المحيط بك ، و هذا ما يجعل الثقافه فى أى ناحية من النواحى العلمية أو الادبية تؤثر أثرا كبيرا فى النواحى الأخرى حتى ما نظن أن ليست له صلة به ، و قد أصاب من قال : " إن رقى الإمة فى الموسيقى و تذوقها الصوت الجميل و الغناء الجميل يجعلها تتعشق الحرية و تأنف الضيم وتأبى المذلة " ، فمحيط المخ و العقل و الشعور محدود و شديد الحساسية ، كل ذرة فيه تتأثر بأقل شئ ، و تؤثر بما تأثرت . و الفكرة الجديدة قد تدخل فى الفكر فتقلبه رأسا على عقب ، و تجعل من صاحبه مخلوقا جديدا يقل معه وجه الشبه بينه و بين ما كان من قبل ، فإما تجعله فى أعلى عليين ، أو أسفل سافلين . و هنا تتجلى قيمة الثقافه الذاتية فى مقدار ما أفادت المثقف فى وجهة النظر إلى الأشياء ، و تقويمها قيما جديده أقرب إلى الصحة ، و ثقافة الأنسان لا تقدر بمقدار ما قرأ من الكتب و ما تعلم من العلوم و الآداب ، ولكن بمقدار ما أفاده العلم ، و بمقدار علو المستوى الذى يشرف منه على العالم ، و بمقدار ما أوحت إليه الفنون من سمو فى الشعور و تذوق للجمال و هذا ما يجعلنا نقر بأن أغلى ما فى الثقافه هى القيمة الذاتية لها .